واقعة الانتحار المرتبطة بالامتحان؛ الواقع والدوافع الحقيقية..

قراءة المؤطر التربوي عبد الرحيم گلموني حول واقعة الانتحار المرتبطة بالامتحان


منقول من صفحة Ahmed Bouzid عبد الرحيم ݣلموني على الفيسبوك

مفتش تربوي للتعليم الثانوي التأهيلي وباحث في قضايا التربية والتكوين.

أسدلت إحدى التلميذات بآسفي الستار على حياتها مبكرا بانتحارها، قبل أن يسدلَ الستار عن المرحلة الأولى من امتحانات الباكالوريا 2024، بسبب ضبطها وهي تغش في امتحان اللغة العربية الخاص بشعبة العلوم الإنسانية... خبر صاعق حقا ويستحق التأمل!

أولا خالص العزاء وصادق المواساة لأسرة الفقيدة. ثانيا  هذه التدوينة لا تسعى إلى "تعليق الحجام بعد سقوط الصومعة"، بل فقط إلى محاولة فهم ما جرى. حسب علمي، واقعة الانتحار المرتبطة بالامتحان هذه ليست الأولى. ولكنها واقعة حزينة تسائل الجميع وليس المنظومة التعليمية لوحدها. هناك الكثير من الأسباب منها:

✓ أن شهادة الباكالوريا ابتذلت على مر العقود، وصار يحصل عليها أغلب المترشحين بتفاوت مُريب بين "المستويات" تعكسه النقط المحصل عليها والتي تحدد -منذ البدء- الخيارات والمسارات المتاحة أمام التلاميذ ما بين مدارس وكليات "نخبوية" ذات استقطاب محدود وشبه محجوزة "للورثة" كما وصفهم بورديو وباسرون، وكليات مفتوحة لجحافل التلاميذ "المتخلى عنهم". ومثلما كان في الماضي الحصول على الجواز أمرا أشبه بالمستحيل لأنه كان عصى سحرية تحل الكثير من المشاكل، ثم صار- في ما بعد- سهلا ولكنه "حَدُّو طنجة" -كما كان يقال- حين تحصنت دول أوروبا بأسوار التأشيرات وجدران التعقيدات، صار الباك الذي كان تحصيله أكثر تَطَلُّبا وصعوبة -بدوره- "حدو الكلية أو التكوين المهني" أو حتى الانضمام إلى جيوش من المنقطعين الذين يعودون أدراجهم -تدريجيا- إلى ما يشبه الأمية، خاصة بالنسبة لتلاميذ شعبة الآداب والعلوم الإنسانية: منكوبو المنظومة. هكذا ترتسم بعنف وقوة الخريطة التعليمية والدراسية في منظومة تزعم المساواة وتكافؤ الفرص.

✓ أن أسوء المنظومات التعليمية في العالم هي المنظومات التي تجعل من التقييم غاية الغايات، والتي تعاني تضخم آلته وجبروتها بحيث تكون النتيجة أهم من السيرورة، والنقطة أهم من التعلم، والتفوق في الامتحان، (وبأي طريقة، لا يهم)، أهم من التربية. تتحول المدرسة إلى حلبة سباق قاس يشارك فيه "متسابقون" متفاوتو اللياقة البدنية، ومستوى التدريب، وكمية المنشطات المستعملة وعلى رأسها منشطات الدروس الخصوصية، كما أن القانون فيه لا مبال أحيانا، ومتحيزٌ أحيانا أخرى، وإمكانية الغش فيه ثابتة الورود ولها ألف طريقة وطريقة، بل ترسخت بتغاضي أجهزة التحكيم نفسها أو بمساعدتها. هذه الصورة ليست استعارةً كاريكاتورية، بل هي واقعٌ عصيٌّ على الفهم الإصلاح. 

✓ لا يتوقف التنافس على التلاميذ فقط، بل تحتد حمى التنافس كذلك بين المؤسسات والمديريات والأكاديميات، كل يريد تحقيق السبق والتفوق بنسب تقترب -شيئا فشيئا- نحو الكمال تفاديا لِلِجَان عبثية سنتها مذكرات غير مسؤولة وغير مفهومة. في نظام تعليمي كهذا لا شيء يهم سوى النقط والإحصائيات والمنحنيات المتسابقة نحو عنان السماء... أما ما ينبغي أن يتعلمه التلاميذ داخل الفصول الدراسية من معارف ومهارات ومواقف وقيم فلا قيمة له لأنه لا يندرج ضمن التقويم. ما لا يقوم لا قيمة له ولا أحد ينتبه إليه. 

✓ "المناهج" الدراسية هي أشبه بالسكن العشوائي إذ تفتقد البناء المنهاجي السليم، وترجح الحفظ والاستظهار وتنطوي على أخطاء منهجية، بل وحتى معرفية. أما الشعب والمسالك والمواد التعليمية المكونة فتخضع لتراتبية رهيبة تحدد -سلفا- في بورصة التقييم المعامِلات وشروط الإنجاز المثالي، أما عتبات القبول في "المدارس العليا" رمز النجاح الاجتماعي، فتتحكم في أسعار الدروس الخصوصية للقادرين عليها. أما «المتخلى عنهم" من التلاميذ، فيساقون إلى شعب يتنامى إفلاسها عاما بعد عام. (مسلك الآداب انقرض أو هو في طريق الانقراض لكون التلاميذ يعتقدون بأنه أكثر صعوبة لأنه أكثر تطلبا من "مسلك العلوم الإنسانية" الذي يعتمد أكثر- في نظرهم- على الحفظ والاستظهار).  أما المقاربات البيداغوجية فلا وجود لها خارج النصوص الرسمية. تدعي هذه النصوص تنمية كفايات التلاميذ (...). لكن، التقييم يتم على أساس عينات من المحتوى التي يتم تكييفها وتخفيفها -حسب الظروف- إلى حد ينزع عنها الطابع التركيبي فيحول التقييم إلى شبكات إجابة نمطية وثابتة قابلة للتعبئة وقابلة للنقل عبر السماعات المخبأة وغيرها... يتم باطراد تخفيض ارتفاع عارضة القفز لمسايرة تدني التعلمات ومواراة أعطاب مدرسة منكوبة. من المؤسف أن يعجز التلميذ (ة) -تماما- عن قراءة نص (أدبي أو غير أدبي) وتحليله، وذلك بعد 12 سنة من الدراسة على الأقل، فيضطره ذلك إلى الاستنجاد بالغش. ومن المؤسف -كذلك- أن يتنكب "المنهاج"، وضمنه آلة التقييم الجهنمية، للقيم والكفايات الذاتية والاجتماعية وكل ما يندرج ضمن دائرة "التربية" في مقابل "التعليم" بما هي تمكين التلميذ من المعارف والتعلمات الأكاديمية - جنبا إلى جنب- مع المهارات الحياتية خاصة ما يرتبط منها بتدبير الذات كمهارة الصُّمُود (قدرة التلميذ على تدبير القلق والإجهاد النفسي، والصبر والمثابرة والقدرة على المواجهة...). وهذه كفايات تدخل -كذلك- في صميم التربية الأسرية، حتى لا تنتج لنا الأسرة والمدرسة كائنات هشة سريعة الانكسار وعاجزة عن مواجهة تقلبات الحياة وصعوباتها...

✓ هناك سبب آخر هو ووجود نوع آخر من الهدر المدرسي لا أحد ينتبه إليه ولا أحد يتحدث عنه، وهو الهدر المدرسي الداخلي الذي -خلاف الهدر الخارجي أو الانقطاع الدراسي الصريح- يظل فيه "التلاميذ" داخل المنظومة، في الفصول الدراسية، ولكنهم منقطعون عن التعلم -تماما وراغبون عنه-، يأتون إلى أقسامهم بدون كتب أو دفاتر، وبدون رغبة في تعلم فقد جدواه في نظرهم، ولا يبدون الاحترام الواجب نحو أساتذتهم الذين غالبا ما يقايضونهم السلم الصَّفِّيَّ بالنقط والتغاضي عن الغش، والسماح لهم بالانتقال -بناء على نتائج هزيلة ومزيفة- إلى المستويات الأعلى بدون تعلم، وبدون مواصفات نجاح. هكذا يراكم التلاميذ الفشل والإخفاق ويتدربون يوميا على الغش... ماذا تنتظر المنظومة من هؤلاء أن يفعلوه لإحراز الشهادة، في مجتمع طبع -منذ عقود- مع الغش بمباركة الكثير من الأسر والتي تستثمر لذلك ماديا وحتى تقنيا؟

✓ التردي القيمي والأخلاقي الذي جعل بلادنا تحتل الصدارة في ذلك أمميا: تنامي معاداة المجهود، ومناوءة النزاهة، ومديح الغش والفساد والفوضى، واستشراء الوصولية والزبونية، وهجو المثابرة والعصامية وكل القيم الجميلة، واستئساد قُدوات فاسدة ومنحطة للتفوق والنجاح الفردي والاجتماعي، عن طريق إعلام انخرط في جوقة البهرجة والفاشية الفرجوية المتنامية، وتكنولوجيا قاهرة تم استغلالها بطريقة سيئة، وبسبب استقالة الأسرة عن دورها التربوي... كل هذا يسائلنا جميعا (أسرة ومدرسة وإعلام ومجتمع مدني...) وليس المدرسة لوحدها، لأن اعتقاد المجتمع باحتكار المدرسة للتربية هو ضد التربية.  يتزامن هذا التردي الأخلاقي مع التطور التقني والرقمي: نحن أمام ظهور أجيال جديدة من الوسائل التكنولوجية عصية على المراقبة والضبط أمام تفشي الغش، وهو آفة عمت كل مناحي الحياة بما فيها الحياة السياسية، بتواطؤ من الجميع -ولو بالصمت-، رغم الإجراءات الزجرية التي لا تكفي لوحدها للحد من هذه الظاهرة.

خالص العزاء وصادق المواساة لأسرة التلميذة الفقيدة !

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق