تحليل ومناقشة نص غاستون بيرجي: عزلة الأنا / الذات
لحظة الفهم
المجال الإشكالي العام: الوضع البشري،
الموضوع / المفهوم: الغير،
القضية / الإشكال: معرفة الغير،
السؤال الأساسي:
هل يمكن معرفة الغير القريب والصديق؟ هل يستطيع الإنسان نقل تجربته الخاصة إلى الآخرين؟ وهل يمكن أن يعيش تجربة شخص آخر؟
لحظة التحليل
الأطروحة؛
يعرض النص أطروحة هامة وهي أن التجربة الحميمية للذات تمثل عائقا لأي تواصل مع الذات الأخرى (الغير)، ما يؤدي إلى استحالة معرفتها. فالذات تعيش في عالم منغلق وخاص، عالم محصن ومنيع أمام الغير الذي يحاول اكتشافه، وهذا يحيل دون تبادل التجارب الحميمية (مشاعر الألم، الحب، الخوف، الفرح،...) الذوات ومعرفتها ببعضها البعض.
البناء المفاهيمي للنص:
اعتمد النص لبناء في بناء أطروحته على جملة من المفاهيم الهامة: الأنا، الحميمية، العزلة، التواصل، الغير، التجربة الذاتية، الانغلاق؛ فالعزلة حالة نفسية يعيشها الشخص بوصفه ذاتا وأنا لها وعيها الخاص ووجودها المادي والنفسي المستقل، استقلال يجعله في تباعد كبير عن الأغيار وفي انغلاق تام لا يمكن اختراقه، أما التواصل فهو تبادل لخبرات ولمعلومات وأفكار عبر اللغة ووسائط أخرى، وتعني الحميمية كل ما يعيشه الشخص في علاقة خاصة مع جسده وعواطفه وإحساساته وتصوراته، ويدل مفهوم الأنا على الذات الواعية بذاتها والتي تعيش في عزلة وحميمية مع ذاتها، أما مفهوم الغير فيشير إلى الذات الأخرى التي لها وعي بذاتها وتسعى لاكتشاف الذات الأخرى.
هكذا نلحظ أن بين مفهومي الأنا والغير إضافة إلى مفاهيم التواصل، العزلة علاقة تضاد، بينما ربط النص بين العزلة والتجربة الذاتية باعتبار هذه الأخيرة سببا رئيسيا في عزلة الذوات عن بعضها البعض على المستوى الوجداني والمعرفي.
إذن فمعرفة الغير غير ممكنة، حسب بيرجي، وللاستدلال على هذه الأطروحة، انطلق النص بداية من سؤال استنكاري مضمونه أن التجربة الحميمية مع الذات في اعتقاد الناس تشكل عائقا أمام أي تواصل ممكن مع الغير، وبالتالي استحالة معرفته. فكل ذات بهذا المعنى تظل منعزلة عن الذات الأخرى، فلا مجال لانفتاح الذات على الغير او انفتاح الغير على الذات. ويشبه النص ذلك بالسجن المنيع الموصدة أبوابه في الاتجاهين معا اي أمام الذات وأمام الغير. كما تضمن النص تمييزا بين الظاهر والباطن، بحيث تبدو عملية التواصل ممكنة ظاهريا، غير انها في الباطن تواجه بفشل لا مناص منه، بالنظر لاستحالة النفاذ إلى أعماق الغير او نقل التجربة الذاتية إلى الغير. ويقدم مثالا كحالة واقعية وهي حالة ألم الصديق: فرغم كل التعاطف والرغبة في المواساة والتخفيف عن الصديق إلا أن الذات لا يمكنها أن تعيش ألمه فهو ألم خاص وبرانيا بالنسبة لي. لينتهي النص باستنتاج يؤكد به استحالة التواصل مع الغير، وانعزال الذوات عن بعضها، بالرغم من رغبة التواصل الدائمة والتي لا تتحقق أبدا.
لحظة مناقشة أطروحة النص من خلال موقفي: ماكس شيلر وموريس ميرلوبونتي،
إذا كان بيرجي يؤكد أنه لا يمكن ان يتحقق التواصل بين الذوات، على اعتبار ان التجربة الحميمية للشخص تجربة منغلقة على ذاتها، فهل يعتبر التواصل دائما أمرا مستحيلا؟
في مقابل التصور السابق، يقر كل من ماكس شيلر وموريس ميرلوبونتي بإمكانية التواصل بين الأنا والغير وإمكانية معرفة بعضهما البعض. فهذا شيلر يعتبر معرفة الغير ممكنة وذلك بربط مقاصده ونواياه الخفية بتعابير جسده، فندرك الفرح بالابتسامة، والحزن من دموعه. وبهذا فجسد الغير وحركاته وتعابير وجهه تشكل رموزا تدل على باطن وداخل الغير. هذا النوع من المعرفة يقوم أساسا على المماثلة والمشاركة العاطفية بحيث نقيس تصرفات وتعابير جسد الغير بمقياس الذات ما تصدره من تصرفات وتعابير جسدية، بناء على مبدأ التشابه بين الذات والغير.
إن هذا الموقف الذي عبر عنه شيلر يمثل تجاوزا للتصورات الاختزالية والتجزيئية للغير، إن الغير كل غير قابل للتقسيم إلى ظاهر وباطن أو جسم ونفس، فالغير لا يدرك إلا في كليته، وذلك عبر التعاطف الوجداني وفتح قنوات التواصل معه التي اعتبرها بيرجي غير قابلة للفتح فيما بين الذوات.
وإلى جانب موقف شيلر أكد الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونتي إمكانية معرفة الغير، وذلك عبر التفهم والتواصل، معرفة رهينة بدخول الذات في علاقة مع الغير مؤسسة على الاعتراف المتبادل والتواصل والمشاركة الوجدانية وتجاوز التوقع المتعالي. إن نظرتي للغير ونظرته لي لا تولد الشعور بالضيق إذا كانت إنسانية بل تفضي إلى تواصل منفتح يتأسس على التفهم وتقبل الغير أفكارا وعواطف..
خاتمة وتركيب
بناء على ما سبق نستخلص أن معرفة الغير تتأرجح بين الاستحالة والإمكان، وأنها ترتبط أساسا بطبيعة العلاقة القائمة معه، والتي ينبغي ان تقوم على الاعتراف والانفتاح والتواصل المبني على نظرة إنسانية متبادلة.