إنشاء فلسفي تحليل سؤال إشكالي هل تتخذ الأحداث التاريخية مسارا محددا؟
مطلب الفهم 4ن؛
يتحدد الوضع البشري كوضع يتناول الوجود الإنساني
وما يسم هذا الوجود من تعقد وتركيب، وبالتالي صعوبة فهمه، دون تمحص مستوياته وشروطه المختلفة، من خلال عدة أبعاد مميزة للإنسان؛ ذاتيا واجتماعية وزمانيا، ويحيل البعد
الزمني على انتماء وامتداد الوجود الإنساني في التاريخ. ويقصد بالتاريخ كل إنتاجات
الإنسان في الماضي فنونا وصناعات وأحداث (حروب وأزمات وثورات..) فردا أو جماعة،
وكل ما نعرفه عن تلك المنجزات. فالتاريخ يشهد أحداثا لا يمكن حصرها، تمثل حلقات أو
لحظات هامة من تاريخ تقدم البشرية، تقدم يسير في اتجاه ومسار واحد محدد، لكنه
ليس دائما فالأحداث التاريخية تتخذ مسارات مختلفة وغير محددة. هذا الأمر يضعنا
أمام إشكال وقضية المنطق الذي يحكم التاريخ، ومنه يمكن أن نتساءل؛ ما التاريخ؟ وما
هو المنطق الذي يحكم التاريخ؟ هل هو الاتصال أم الانفصال؟ الضرورة والحتمية أم
الفقرات والصدفة؟ هل لأحداث التاريخ مسارا محددا وتتجه نحو غاية معينة أم أن لها
مسارات واتجاهاته متعددة وتتجه نحو غايات مختلفة؟
مطلب التحليل 5ن؛
يعبر السؤال عن أطروحة مفترضة مفادها أن الأحداث التاريخية مسارا محددا، أي أنها تتحرك وتتجه بشكل خطي نحو غاية محددة وبوصلتها تؤشر إلى وجهة محددة، لا ينبغي أن تنحرف عنها، بل لا يمكن أن تنحرف عن وجهتها التي سمت وحددت لها. إن ما شهده تاريخ البشرية من أحداث إلى اليوم أمر مخطط له يهدف تحقيق غايات محددة سلفا هي الأخرى، وهذا يعني أن التاريخ يسير رأسا نحو هدفه وذلك بشكل حتمي وضروري، ما دام يسلك مسارا محددا. هذا ما تبوح لنا به أطروحة السؤال المفترضة، سؤال جاء بصيغة استفهامية "هل"، تفيد الاستفسار عن ما إذا كان للأحداث التاريخية مسارا واحدا أم مسارات عدة، بمعنى أن أداة الاستفهام (هل) تطالبنا بالإجابة إما بالإثبات فنؤكد مضمون أطروحته المفترضة، وإما بالنفي، فندحض تلك الأطروحة. ويتضمن السؤال مفهومها فلسفيا، هو مفهوم التاريخ، وكلمات مفتاحية (تتخذ، الأحداث، محدد)، ويتحدد مفهوم التاريخ، باعتباره مجموعة من الأحداث والوقائع التي حدثت في زمن ماضي بشكل مترابط ومتسلسل وتهدف تحقيق غاية ووجهة ما محددة وفق مسار معلوم وحتمي. فإذا نظرنا إلى أحداث التاريخ من زاوية الفكر والمعرفة، نكتشف أن مجال العلم والمعرفة هو مجال لصراع الأفكار، فكل فكرة تحاول إثبات نفسها وبالتالي تدخل في جدال مع نقيضها أو ما يعتبر كذلك، بهذا المعنى، فالتاريخ يسير وفق منطق جدلي، مفاده أن الفكرة ستؤدي إلى ظهور نقيض لها، وهذا النقيض سيولد نقيضا آخر له، حيث أن ما يحرك التاريخ هو الصراع بين نقيضين. هذا الصراع يمثل المسار الذي تتقدم وفقه الأحداث التاريخية، باعتباره مسارا حتميا للتطور والتقدم الحضاري. وفي هذا السياق نستشهد بمقولة هيغل: "إن لأحداث حياة الشعوب غاية نهائية".
إذن، اتضح لنا أن الأحداث التاريخية تتقدم
وتتطور وفق منطق الضرورة بحيث تتخذ مسارا محددا، وتتجه نحو تحقيق غاية نهائية، لكن
إلى أي حد بالفعل تتخذ الأحداث التاريخية مسارا محددا؟ ألا يكشف واقع الدول
والمجتمعات أن التاريخ بأحداثه لا يمكن التحكم فيه وتوجيهه وفق خطة ومسار محددين؟
مطلب المناقشة 5ن؛
لقد تبين من خلال الوقوف على تحليل الأطروحة
المفترضة، والتي تضمنها السؤال أن للتاريخ منطق يحكم حركيته وتطوره، فالتاريخ
يتقدم بشكل خطي متسلسل ومنتظم، بحيث لا يحسد عن مساره الذي رسم له حتى يبلغ وجهته
وغايته النهائية. وما يبرز قيمة هذه الأطروحة وأهميتها من الناحية الفلسفية، جعل
أحداث التاريخ منتظمة وخاضعة لنظام محدد وغايات ستحققها، الأمر الذي يجعل الوجود
البشري ذا معنى ومغزى، بفضل الانتظام والغايات المنتظر بلوغها، ومن ناحية تاريخية
وواقعية فإن الكثير من الدول عرفت تقدما وتطورا على عدة أصعدة وذلك بفضل التخطيط
الجيد والمحكم ووضع استراتيجيات للنهوض بشعوبها سياسيا واقتصادية وثقافيا، وهذا ما
لاحظناه مع كل من الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، الهند، تركيا...فهذه
الدول عاشت أحداث تاريخية مؤثرة في مسار تقدمها، وهي على ما عليه اليوم بفضل
التوجيه والتخطيط المسبق والدقيق. فالتقدم مرتبط بالاكتساب الاجتماعي وقوانين
السيرورة التاريخية، حيث أن السيرورة التاريخية خاضعة لمجموعة من القوانين، هذه
القوانين هي التي ترسم مسارا محددا للتاريخ.
وتأكيدا لقيمة الأطروحة المفترضة، وأهميتها، وإذا
ما انفتحنا على الواقع الاقتصادي، واقع الشغل وعلاقة العمال بالعمل وأرباب العمل،
في ظل الأنظمة الرأسمالية، نجد أن هذا الواقع وتلك العلاقة محكومة بالصراع، بحكم
التناقض القائم بين قوى الإنتاج (العمال..) وعلاقات الإنتاج (أرباب العمل)، في ظل
نظام اقتصادي وسياسي قائم على الاستغلال، هكذا، فالصراع (الطبقي) والتناقض بين قوى
الإنتاج وعلاقات الإنتاج حسب، ماركس، هو الذي يحدد ويرسم مسار الأحداث التاريخية،
هذه الأحداث لها غاية نهائية، وهي اختفاء الطبقات وتحقق الاشتراكية الشيوعية،
وتحول الصراع من صراع بين الإنسان والإنسان، إلى صراع بين الإنسان والطبيعة. هكذا
فالتاريخ يسير ويتقدم بموجب قوانين وشروط من وضع الإنسان.
لكن، ومن زوايا أخرى فإن للأطروحة المفترضة، نقاط ضعف تبرز حدودها، فالواقع، والتاريخ يكشفان لنا أن أحداث التاريخ تسير وتتقدم بموجب قوانين وشروط من وضع الإنسان، لكن في الغالب ما تتقدم بموجب حتميات وضرورات خارجة عن الإرادة الإنسانية، فرغم تدخل الإنسان في مسار الأحداث التاريخية لكن لا يمكن أن نرفع عنه تأثير حتميات خارجية، كما أن اتصالية الأحداث التاريخية لا تعني بالضرورة أن الغاية التي يسير إليها التاريخ حتمية، لأنه من الممكن أن ينحرف عنها، ويسر من ثمة في اتجاه غير الذي رسم له سلفا، ذلك أنه وفي كثير من الحالات ينقلب التاريخ من الغايات الإنسانية ليسير بدلا من ذلك في اتجاه لا يرضاه ولا يريده. ولا يصح القول، حسب، موريس ميرلوبونتي، بأن التاريخ حركة متصلة أو جدلية محضة، كما لا يصح القول بأنه نسق مغلق يرمي إلى غايات محددة سلفا. إنه وكما قال كلود لفي ستراوس، يتم عبر وتباث فجائية وييسر في اتجاهات مختلفة ووجهات غير محددة، فالتاريخ كرقعة شطرنج في كل لحظة تتغير أمكنة واتجاهات اللاعبين وفق حركة لا يمكن توقع اتجاهاتها أو التحكم فيها، كما أنه يمكن في كل لحظة وحركة تقدم فقدان ما كسبناه في الحركة السابقة. وهذا معنا أن التاريخ ليس له مسارا محددا، ولا يتقدم بشكل تراكمي وحتمي.
مطلب التركيب 3ن؛
ختاما، يمكن الخروج بخلاصة وتركيب لقضية التاريخ
وفكرة التقدم أو المنطق الذي يحكم الأحداث التاريخية، فالتاريخ تحكم منطقه الضرورة
والحتمية من جهة بحيث تأخذ سيرورة الأحداث التاريخية مسارا محددا وحتمي نحو تحقيق
غاياتها، ومن ناحية ثانية تنفلت تلك الأحداث من كل رقابة وتوجيه، فتنحرف عن مسارها
وغاياتها. وتتجلى راهنية الإشكال في التعرف على المنطق الذي تخضع له الأحداث التي
نعيشها الشعوب والمجتمعات، وإدراك أن التقدم لا يقاس بجانب واحد فقط، فالتقدم
أشكالا ووجوه متعددة وليس فقط وجها واحدا هو الوجه المادي الاقتصادي. وكرأي خاص،
يبدو لي أن التاريخ ليست كل أحداثه خاضعة التنظيم بحيث تسير في اتجاه محدد،
وبالرغم من أهمية التخطيط لحياتنا، فكثيرا ما تتغير الأحداث فتتغير معها الخطط
والمسارات، والغايات كذلك، على سبيل المثال ألم يخطط الزعيم الراحل معمر القدافي،
وكذلك الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك لأن يعمرا في السلطة طويلا، وكان لهم ذلك،
لكن هل خططا يوما بنهاية حكمهم وبالطريقة التي شهدها العالم بأسره؟ الجواب لا
بالتأكيد، وهذا يعني أن التاريخ يصعب التحكم في أحداثه وتوجيهها وفق مسار محدد.